الاثنين، 16 مايو 2011

التفسير السياسي للفتنة الطائفية في مصر


التفسير السياسي للفتنة الطائفية في مصر



شريف عبد العزيز

في سنة 1798م شهدت بلاد مصر الحملة الفرنسية الشهيرة التي كانت علامة فارقة في تاريخ مصر والمنطقة العربية بأسرها، إذ تسببت هذه الحملة في إطلاق شرارة ما عرف 
 في مصر الفتنة الطائفية، وهي الفتنة التي ما زالت تعاني منها البلاد حتى وقتنا الحاضر، بل تمثل أغلظ الملفات الداخلية التي تواجه الحكومات المصرية على مر العصور.

- مسلمو مصر تعايشوا مع أقباطها في نسيج وطني واحد ومتماسك منذ
 الفتح الإسلامي، وعلى مر العصور بلا أدنى مشكلة، ولم يسجل التاريخ خلال قرون الحكم الإسلامي ثورات للأقباط سوى مرات قليلة جدًّا، وكانت لأسباب مادية بحتة، لا علاقة للدين والاضطهاد بها من قريب أو من بعيد.

- لذلك كانت صدمة المسلمين في مصر قاسية ومؤلمة لما رأوا المعلم يعقوب بن حنا التاجر الشهير يضع نفسه وأمواله الطائلة -ولاحظ التشابه بين شخصية يعقوب حنا وأحد المليارديرات النصارى المشهورين اليوم- تحت تصرف الحملة الفرنسية، وشكل فرقة مكونة من ألفين من أقباط مصر التحقت بالجيش الفرنسي وشاركت في محاربة المصريين، وكان لها الدور الأبرز في قمع ثورة القاهرة الثانية سنة 1800م، وهي التي هدمت حي بولاق معقل الثوار على رءوس النساء والأطفال حتى يستسلم الثوار، هذه الصدمة أوجدت ولأول مرة 
الفتنة الطائفية في مصر.

- هذه الفتنة أخذت تداعياتها يومًا بعد يوم في الازدياد حتى وصل الأمر لئن تكون سببًا مباشرًا للاحتلال البريطاني لمصر سنة 1882م بدعوى حماية الأقباط في أعقاب سلسلة من التوترات الطائفية بدأت بمعركة العربجي والمالطي في الإسكندرية، وسقط خلالها عشرات القتلى والجرحى.

- هذه التقدمة التاريخية لجذور الفتنة الطائفية في مصر تكشف لنا بما لا يدع مجالاً للشك أن السبب الحقيقي لهذه الفتن في مصر، هو سبب سياسي في المقام الأول، ففي كل مرة كانت تثور فيها فتنة طائفية كانت ثمة دوافع سياسية تقف خلفها، ففرنسا أرادت أن توظفها لتكريس احتلالها لمصر وتقضي بها على ثورة المصريين ضدها، وتفك لحمة الشعب المصري لكسر صموده ورفضه للمحتل الفرنسي..

والإنجليز استخدموا نفس الورقة من أجل تبرير عدوانهم على مصر واحتلالها، وما زالت اللعبة مستمرة، فكل مرة تثور فيها الفتنة الطائفية في مصر تكون السياسة الغائب الحاضر في هذا المشهد البغيض، ومن ثم لا بد من محاولة تفسير أحداث الفتنة الطائفية الأخيرة التي وقعت في مصر تفسيرًا سياسيًّا يضع الأمور في نصابها، ويكشف الأقنعة عن الأدوار المريبة التي تلعبها العديد من الأطراف الموجودة على ساحة الأحداث في مصر.

ومن خلال سياق الأحداث الأخيرة التي وقعت في مصر بعد الثورة نجد أن الفتنة الطائفية قد أصبحت أخطر وأنكي أدوات الثورة المضادة، ومن أكبر معول هدم استقرار وأمن البلاد التي تعاني بالفعل اضطرابًا واهتزازًا داخليًّا من جراء التخلص من آثار العهد البائد، فعلى الرغم من المشهد الوطني الرائع الذي ضربه ثوار التحرير في التعايش والاشتراك والوحدة في الهدف والمصير، إلا أن المشهد سرعان ما تحول إلى صورة درامية ومأساوية تترجمت في سبع مشاهد للفتنة في نواحي متفرقة من البلاد، فسالت الدماء وأزهقت الأرواح واحترقت البنايات، وتفسير الأمر على أنه مجرد عداوة دينية يدفعنا لا محالة نحو هاوية التقسيم الجغرافي على أساس ديني مثلما حدث بين الهند وباكستان قديمًا، وشمال السودان وجنوبه حديثًا.

- إن الوقوف على الأسباب الحقيقية لمثل هذه التوترات الطائفية، يضع روشتة العلاج الصحيحة، ومعرفة أصل الداء هو الطريق الأصوب والأسرع لوضع الدواء، ومن خلال استقراء سير الأحداث في مصر بعد الثورة نستطيع أن نضع محورين لفهم الفتن الطائفية المتكررة في مصر وهي حسب رؤيتنا كالآتي:

المحور الأول: الكنيسة وجلباب مبارك :

- "يا مبارك فينك فينك، السلفيين بينا وبينك"، "يسرقنا يسرقنا بس نعيش في أمن وأمان" هذه عينة من هتافات النصارى المعتصمين أمام القضاء العالي وميدان التحرير وماسبيرو، وهي هتافات تكشف عن الشعور القبطي الحقيقي وليس الإعلامي من رحيل النظام البائد، ففي ظل نظام المشلوح مبارك، كانت الكنيسة المصرية موضع عناية خاصة ومميزة من جانب مبارك وزمرته، وكان كافة المسئولين المصريين يسارعون بتقديم فروض الطاعة والمحبة للبابا شنودة ورعيته..

هذه الرعاية والاهتمام الكبير جعلت الأقلية القبطية في عهد مبارك، واحدة من أسعد وأغنى وأقوى الأقليات على مستوى العالم، وعلى الرغم من الدعايات الكاذبة والأباطيل السمجة التي دأب الأقباط على ترديدها؛ بأنهم مضطهدون من نظام مبارك، إلا أن الواقع يشهد لهم برفاهية غير مسبوقة، وحقوق كثيرة تتجاوز كثيرًا الرقم الفعلي لهذه الأقلية (قرابة الـ6 مليون على أكثر التقديرات تفاؤلاً).

- لذلك كان من الطبيعي أن يكون البابا شنودة من أكثر الناس وفاء لمبارك، فقد حرم على شعبه القبطي الأرثوذكسي! الاشتراك في المظاهرات، والذي شهد مظاهرات ميدان التحرير لم يتجاوز عددهم المائتي متظاهر وجلهم من أتباع الكنائس الأخرى، وبعض الرهبان المعارضين لشنودة..

ولما تنحى مبارك كان شنودة من أشد الناس حزنًا على رحيله، للدرجة التي وصلت لإصابته بالاكتئاب النفسي والسفر للخارج من أجل النقاهة والاستجمام من آثار صدمة تنحي مبارك، كما أنه الوحيد الذي كان يداوم على الاتصال بمبارك في شرم الشيخ والسؤال على أحواله وصحته، عرفانًا منه وشكرًا لمبارك على خدماته الجليلة للشعب القبطي..

وعلى ما يبدو أن رأس الكنيسة المصرية لم يعي جيدًا ما جرى في مصر من ثورة تغيير شاملة، فظل يمارس نفس دوره التحريضي للأقلية القبطية للحفاظ على مكانتها ووضعها الامتيازي أيام مبارك، فالكنيسة أيام مبارك كانت خطًّا أحمر لا يجرؤ أحد على الاقتراب منه والمساس به، كانت دولة داخل الدولة، كانت فوق القانون، لا يجرؤ أحد على دخولها بصفته الرسمية أبدًا، إلا إذا سمح له البابا بذلك، حتى موظفي الخدمات والمرافق العامة لا يستطيع أحد منهم أن يطالب الكنيسة، أي كنيسة، بقراءة عدادات أو سداد فواتير أو متابعة أداء، لأنها كانت فوق الجميع..

الكنيسة كانت فوق أحكام القانون، لا تطبق عليها أية أحكام قضائية مهما كانت درجة المحكمة التي أصدرت تلك الأحكام، لأنها ببساطة كانت دولة داخل الدولة، وبالتالي لما أرادت الحكومة والأجهزة الأمنية والسياسية أن تمارس دورها الجديد في متابعة سائر مؤسسات الدولة وهيئاتها القائمة بما فيها المؤسسات الدينية ومنها الكنيسة، أظهرت الكنيسة رفضًا لذلك بشدة، فعندما استدعت النيابة العامة كاميليا شحاتة مفجرة الأحداث الأخيرة للتحقيق، رفضت الكنيسة الأمر القضائي، إذ كيف ينفذونه وهم فوق القانون..
و حادثة إمبابة
 الأخيرة التي فجرها في الأساس رفض كهنة الكنيسة دخول رجال الأمن ومن معهم من المسلمين لتفتيش المبنى الإداري التابع للكنيسة، بنفس المنطق السقيم، نحن فوق الدولة والقانون، فدفاع الكنيسة المستميت على مكانتها ونفوذها واستقلاليتها عن الدولة هو الذي يقود لحدوث مثل هذه الاستفزازات التي تؤدي بدورها لأمثال هذه الفتن البغيضة، بل يقود لدرجة التآمر على الدولة والاستقواء بالخارج، وهو أمر في غاية الخطورة، ولا ينبغي أن يمر بسلام، وعلى المجلس العسكري التصدي بحزم لهؤلاء الذين اعتصموا أمام السفارة الأمريكية طلبًا للتدخل الأمريكي؛ لأن هذا الاعتصام ما هو إلا مشروع خيانة للدولة والوطن لا بد أن يؤده العقلاء مبكرًا.

المحور الثاني: تأجيل الانتخابات :

- المتابع لدفتر أحوال مصر بعد الثورة يلمح تحولاً جذريًّا في الصراع بين القوى السياسية الموجودة على الساحة، هذا التحول قد بدأ بعد نتيجة التعديلات الدستورية والتي أظهرت اكتساحًا للتيار الإسلامي المصوت بنعم، أمام التيار العلماني والكنيسة المصرية المصوت بلا، بصورة كشفت عن الحجم الحقيقي لكل فريق، ومدى تأثيره في الشارع والناخب المصري، فبعد ظهور النتيجة اندلعت سلسلة متواصلة من الهجوم الإعلامي الشرس ضد التيار الإسلامي ممثلاً في التيار السلفي على وجه الخصوص، لأسباب قد يكون التيار السلفي نفسه جزءًا منها، كما سبق وأسلفنا في مقالة "التفسير السياسي في الهجوم على السلفية".

- الهجوم العلماني الشرس الذي أخذت وتيرته في التزايد يومًا بعد يوم، كان يهدف في النهاية للوصول إلى نتيجة محددة وهي حتمية تأجيل الانتخابات التشريعية المزمع عقدها في سبتمبر القادم، لأن استحقاقات عقد الانتخابات في هذا الموعد كانت ستأتي بمجلس يسيطر عليه الإسلاميون تمامًا، ومما أجج مخاوف العلمانيين والكنيسة من مستقبل النفوذ العلماني والكنسي في مصر، تراجع الإخوان عن وعدهم السابق بأنهم سيخوضوا الانتخابات بنسبة 30% من الكراسي، حيث أعلن الإخوان بأنهم سيخوضون الانتخابات بنسبة 50%، هذا غير الدوائر التي سينافس عليها السلفيون والجماعة الإسلامية والمستقلون..

وكما هو معروف أن الثقل الانتخابي للإخوان متمركز في شمال البلاد، في حين أن الثقل الانتخابي للسلفيين والجماعة الإسلامية متمركز في الجنوب، والمحصلة أن أكثر من 60% من المجلس سيكون في قبضة الإسلاميين، وبالتالي سينعكس ذلك على تشكيلة الحكومة، وكتابة الدستور، والرئيس الجديد للبلاد، لذلك فإن تحالف العلمانيين والكنيسة بما يملكونه من أدوات التأثير ووسائل الإعلام المتنوعة سيعملون جميعًا على الدفع ناحية التصعيد وتوتر العلاقات بين النصارى 
 والمسلمين..

والناظر لأهم الصحف والمواقع الإلكترونية التي لها دور كبير في التأثير والتهييج نجدها مملوكة لرجال أعمال أقباط من المعروفين بعداوتهم الشديدة للتيارات الإسلامية، فمثلا: المصري اليوم واليوم السابع وقناة otv، مملوكة لساويرس، والدستور مملوكة لرضا إدوار، هذه الوسائل تستخدم لتأجيج الفتنة، وإبراز الجاني في صورة الضحية، والتعتيم على الأخبار التي تفضح موقف الكنيسة والأقباط، فمثلاً مذبحة كرداسة التي ذبحت فيها أسرة مسلمة بأكملها على يد أقباط بسبب إسلام فتاة منهم، جرى التعتيم عليها تمامًا..

في حين أن الفتنة التي وقعت في أبي قرقاص بالصعيد تسبب فيها نصراني اسمه (علاء رضا) كتب اسمه في موقع اليوم السابع وصحف ساو يرس باسم (علاء الدين رضا) ليوحي للقارئ أنه مسلم، في حين أنه قبطي وقتل اثنين من المسلمين، واحداثة إمبابة والأخيرة لم يكن للسلفيين فيها ناقة ولا جمل، والنصارى هم من خطف الفتاة المسلمة، وهم من بدأ بإطلاق النار، وهم من قام بقطع الطرق بعد ذلك، ثم يخرج سيناريو الحادث بصورة مغايرة تمامًا ليصبح المسلمون هم المدانون والمجرمون..

ولا تجرؤ صحيفة واحدة على إثارة تساؤلات من جنس: من أين أتى السلاح الكثيف المخزن في الكنيسة؟ ولماذا خطفوا الفتاة؟ ولماذا أطلقوا النار على وفد التهدئة؟ ولماذا حتى الآن لا تنفذ أحكام القضاء؟ وأسئلة كثيرة سكتت عليها وسائل الإعلام المأجورة التي ما زالت لا تجيد إلا دور المحرض الخبيث.

حقيقة نحن الآن أمام اختبار مصيري يحدد بصورة كبيرة شكل مصر في المرحلة القادمة، والمجلس العسكري بوصفه متوليًا لزمام الأمور في مصر، عليه تبعة كبيرة، فالتيار العلماني والكنيسة مدعومين بأجندة خارجية يدفعان البلد ناحية الهاوية، وكلاهما ما زال يعيش في أجواء الحكم البائد، حيث كانت للمكائد والمؤامرات والتحريض سوق رائجة، وما المؤتمر الذي عقد بالأمس برياسة الاستشاري "ممدوح حمزة" أحد أقطاب الليبرالية في مصر، والذي ضم غلاة العلمانيين من كل مشرب ومذهب، ومهاجمة المجلس العسكري والضغط عليه من أجل إعلان علمانية الدولة باسم "المدنية"، ببعيد عما يجري من محاولات فرض الأجندة العلمانية على مصر المسلمة..

والمجلس العسكري لا بد أن يلتفت جيدًا لمحاولات الكنيسة الإبقاء على نفوذها ومكانتها السامية أيام مبارك، حيث الدولة داخل الدولة والخط الأحمر الذي لا يقترب منه أحد، ولا ننسى أن نذكر المجلس العسكري أن السماح للعلمانيين وبابا الكنيسة بتحقيق أجندتهم الخاصة في زعزعة استقرار مصر واستهداف أمنها سيعيد البلاد حتمًا مرة أخرى لأيام النظام البائد، وهي أيام لو قدر لها وعادت لباطن الأرض خير من ظهرها حينها.

المصدر موقع مفكرة الاسلام